ثورة أم هيج
صفحة 1 من اصل 1
ثورة أم هيج
[size=24][color=#cc3300][color=#990099][size=24]الثورة ... والهيج[/size][/color][/color][/size][color=#cc3300][size=24]
[size=24]ثقافة الاستمرار... في عصر القطيعات...[/size][/size][/color]
بقلم عمر الهرهوري / مقالي بتاريخ 13 مارس 2013
ا[size=18]لمشهد السياسي في تونس بعد 14 جانفي 2011 مفتوح على كل الاحتمالات ، تداخلت الأطراف واختلطت الأوراق حتى صار التكهن بقادم الإحداث لا يقل زئبقية عن الرهان الرياضي ، زعامات آفلة وأخرى صاعدة أحزاب تتعدد كالخلايا السرطانية ، كثرت حتى صار الفرق بين أطروحاتها رفيعا جدا لا يكاد يرى بالعين المجردة ، انفلات أمني فردي وجماعي ، غياب شبه تام للدولة وتسيب فضيع في أجهزتها ومؤسساتها ... يسمى التونسيون هذا الأداء ثورة الكرامة والحرية ، من المفارقات أن كلمة ثورة يتلفظ بها الثائرون على بن علي وكذا من ركضوا في شوارع البلاد يوم 13 جانفي هاتفين "الله أحد بن علي ما كيفوا حد "،هذا المشهد مخيف جدا ، وإذا استمر فانه يؤذن بصيف جوع وبطالة.
هل الثورة هي كل الكوارث التي ذكرنا ؟
هل ثمن الثورة – بالضرورة - هدر الأنفس والأعراض والأموال ؟
هل هذه هي حقيقة كل الثورات في التاريخ ؟ أم في الأمر قاعدة و استثناء ؟
الثورة -من مقاربات لغوية وتاريخية وانسانية- جمع بصيغة المفرد ، تتلون بتراثها وثقافتها وبيئتها ومخزون أهلها ... عندما نتحدث عن تعريف الثورة تصدمني – شخصيا – المقارنة بين التعريف اللغوي العربي والفرنسي أو الانجليزي لها ، نقرأ في لسان العرب: ج - ص 53 – طبعة دار صادر سنة 2000 : ("مادة ث – و – ر" ثار الشيء ثورا وثؤورا وثورانا وتثور: هاج ... ويقال انتظر حتى تسكن هذه الثورة ، وهي الهيج وزاد في ص 54 وأثرت فلانا إذا هيجته لأمر ويقال ثورت كدورة الماء فثار ، وأثرت السبع والصيد إذا هجته وفي صفحة 55 والثور : الأحمق ، ويقال للرجل البليد الفهم : ما هو إلا ثور ).، الرافدان الرئيسيان للثقافة العربية ، القرآن والشعر لا يمارسان فعل الانزياح وسايرا المعهود من منطوق العرب ومنه قول الله تعالى عن بقرة بني إسرائيل Sad تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) – البقرة 71 وهو نفس الاستعمال في الآية 48 من سورة الروم : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) ، ومن الشعر :
يثير ويذري تربتها ويهيله إثارة نبات الهواجر مخمس
الثقافة العربية من عصورها القديمة لم تدرب وعينا ولا وعينا اللغوي وبالتالي النفسي إلا على احتمال وحيد أن الثورة هي الهيج ، مجرد الهيج وبهذا المعنى يكون الانفلات الحاصل في مناحي حياتنا ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة في سياقها العربي ، هيجانا مقصودا لذاته وفي ذاته ، كذا يكون التونسيون " الثائرون" ومن تشبه بهم من العرب أوفياء لمخزونهم الثقافي الذي لم يسند للثورة إلا بعض دلالة على استحياء في قلب التربة على الحب وفي ما عداه فالثورة هي الهياج ، لا يقولن معترض أن تعريف بن منظور موغل في القدم ، جوابنا على هذا الاعتراض المفترض أن العرب لم يشهدوا أية قطيعة ابستيمولوجية تقلب رأسا على عقب موروثهم أو علاقتهم به ، في الفقه ، في التفسير، في الأدب ، في الشعر، في السير ، في النقد ... جاء في القاموس الجديد الالفبائي ، نشر دار سراس طبعة 2003 : ( الثورة هي الهيجان) ص 200 في حين نقرأ في اللغة
الفرنسية تعريفا مختلفا تمام الاختلاف للثورة والفعل الثوري، جاء في معجم هاشيت – الموسوعة - :
Révolution : changement important dans l’ordre moral social etc… transformation économique profonde , intervenue dans les pays capitalistes à partir du 18 siècle … Bouleversement d’un régime politique et social ,le plus souvent consécutif à une action violente …)
وتزخر المعاجم الفرنسية بتعريفات مفصلو للثورة ومستوياتها ومجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية... ليس المجال مناسبا لاستعراضها كاملة غير أن المفارقة فارقة، وتدعو إلى كثير من الاعتبار عند إيقاع مقارنة بين التعريفين اللغويين للثورة كما فهمته اللغتان، وأفهمته للناطقين بهما عبر التاريخ ة، وبين السياقين الحضاريين الحاف بهما في كل حضارة.فالهيج - يقابله التغيير ، التغيير أعمق من الهيج رؤية، وأبعد منه نظرا، وأوعى منه حركة، وأرشد منه أداء، وأصدق منه فعلا، وأنبل منه قصدا، وأعمق منه أثرا، وأكثر منه تنظيما، وأوضح منه سعيا إلى المراد، وأسلم منه عقبا...
والإثارة - يقابلها التحول أو التحويل ، التحويل فعل مضمر ، هادف، قصدي، يعي نقطة بدئه ومنتهى حركته، بينما تبقى الإثارة مجرد تفجير للطاقات، وإعداد لشروط تفرقها إذا بلغ الشحن ذروته، دون توجيه دقيق لحركتها، او ضبط لمسارها، فيكون المثار اعتباطيا ، مزاجيا، اتفاقيا... أضر شيء بنفسه وبكل أمر يلابسه.
كما أن القلب، الانقلاب في البنى الاجتماعية والسياسية مما اختصت به اللغة الفرنسية ، ولم يكن من معهود العرب أن يعدوا بدائل سياسية واجتماعية وثقافية... لإرسائها مكسبا ثوريا قبل المسارعة إلى الانقضاض على القائم منها ، ونحن نسمع في تاريخنا عن "ثورة الحسين"، و"ثورة الخوارج بعد التحكيم"، و"ثورة حمدان بن قرمط"، و"ثورة الزنج"و"وثورة العيارين والشطار"... وهي كلها اسقاطات معاصرة على احداث التراث تلك لان لغتنا لا يتسع حقلها الدلالي لتسمية ذلك الفعل الحربي أو الاجتماعي ثورة، وفي سياق محايث تحفل أدبيات الفقه بوسم تلك الاحداث "خروجا "، و"حرابة" وبغيا... وكثيرا ما ربطتها بمعاني الفتنة ذات المثير الطائفي أو العرقي وبالإفساد في الأرض... وليس سلوك طبقة سياسية ذات رؤى محددة لكل شؤون الحياة ، او حركة قطاع من البناء الاجتماعي... وهذه الموجهات الفقهية موغلة في تأثيم هذا الفعل الحربي المسمى حديثا ثورة، ومسرفة في عده من علامات الخروج من جماعة المؤمنين...
ومن جهة أخرى، تحيل بين المرجعيتين اللغويتين على عدم توازن كمي ونوعي فاقت فيه اللغتان الفرنسية والانجليزية اللغة العربية في الفهم العام لفعل "ثار" ولاستحقاقاته التي يستدعيها سياقه، لأن الفرق في اللغة – كما ونوعا – هو ذاته المسافة الفاصلة بين الشعبين في الرصيد الحضاري والمكاسب الثقافية والتاريخية، وأن فقرنا اللغوي في الجانب الذي احدثنا فيه المقارنة، شاهد على فقرنا الثقافي أيضا، وكيف لا عوزنا الاخلاقي، فلم العجب – حينئذ من الثورة والثورية والثيران في بلاد العربان ؟[/size]
[size=18]إن اللغة المشافهة والمدونة تشكل ذوقنا، وتوجه تفكرينا، وتنحت رؤيتنا للأشياء، وتبسط سلطتنا الرمزية على أنفسنا وعلى ما حولنا، وتسطر منهجنا، وتقبح قبيحنا، وتجمل جميلنا، وتؤسس موقفنا من الوجود ومن الأخر ...[/size]
[size=18]وما دامت اللغة بهذه الخطورة البالغة، وبهذه الأهمية الإستراتيجية وأكثر ، فقد تم ترويضنا على مدى قرون معلومة وأخرى غير معلومة على اعتناق لغة البدوي، ساكن الصحراء، حول الثورة على أنها،" الهيج" و"الغليان" مع ما يرافق ذلك من انفلات لفظي وسلوكي كان للهيج في علاقة تضايف لا انفكاك في عراها .
ليس الأوان للتنظير لثورة ثقافية تعيد بناء نسيجنا العلائقي من الأرض حتى السماء، أو تعيد تأليف مدوناتنا اللغوية في ضوء الاستحقاق التاريخي الراهن ، ولكن التعريج على هذا المعطى يفهمنا إلى حد كبير ما نحن فيه، وما نحن ،عليه أو ما نحن صائرون إليه، ف"أزلام بن علي" والمتمردون عليه اتفقوا على الهتاف للثورة كل من زاويته المصلحية ، وكلهم من زاوية ابستيمولوجية ثوارا بما في كلمة الثورة من معنى عربي أصيل ، وفعلهم ثورة وثورية إذا استحضرنا دائما أننا نفكر باللغة العربية وفي نطاق سياجها الدلالي،[/size]
[size=18]فالكل هائجون، وكذا يثور العرب، وعندما يزايدون على أنفسهم وعلى تراثهم يسعون الى جب هذا المخزون الثقافي الجاثم على الصدور أو يصعدون أكثر في الطلب فيمنون النفس – في غفلة من التاريخ - ببلوغ ما نجح الأروبيون في تشييده عبر قرون من النضال الفكري والفلسفي والسياسي والاجتماعي بممارسة الثورة تغييرا وهيكلة وقلبا وانقلابا على البنى السياسية والاجتماعية والثقافية ...
وفي إطار ثقافة لا تعرف الثورة إلا هيجا أو هيجانا يتعذر التنبؤ بموعد الشرارة ، ويتعذر أيضا تحديد مدى تأثيرها، وحصر نتائجها، أو معرفة الجهة أو الجهات الفاعلة فيها ، وكل مهيج يصبح قادرا على إذكاء جذوة الثورة سواء كان خطيبا ببلاغته أو زعيما بشعاراته أو مثقفا بخطبه أو ثريا بماله أو عدوا بعيونه .[/size]
[size=18]وفي الهيج أو الهيجان يسهل التزعم وتسهل القيادة ويسهل الانقياد تحت تأثير الاندفاع الجماعي والصخب والهتاف ...ولا توجد في الهيج تراكمات نضالية وتعبئة عقائدية وتكوين فكري تنجزه النخب والقيادات ،[/size]
[size=18] فلا عجب بعد ذلك أن تغيب من معاجمنا القديمة والحديثة ألفاظ من قبيل الثورة الثقافية ، والثورة العلمية، والثورة الدينية... وما كتب منها في بعض المعاجم المعاصرة فعلى سبيل الترجمة أو التأريخ لما عند الغير ، أو على سبيل مسايرته في ما شاع من أطروحاته.
الفرق بين الهيج والثورة في سياق اجتماعي كما بلورها الفكر التنويري كبير، يفترض أن للثورة قيادة متعددة الأقطاب حتى لا تخمد بقتل القائد أو أسره وخطة – مزيج من استراتيجيا وتكتيك – ومنهج عمل منه السلمي ومنه الحربي الذي لا يوظف إلا للضرورة وبقدر دفع الضرر.
أين قادة الثورة ؟ من يجرأ على أن يدعي زعامتها أو يبرهن على انه محركها؟ الكل مجمع على أنها ليست حزبية ويشددون على عفوية الجماهير وصدقها ، إذا نحن بإزاء هيج أو هياج وليس ثورة . هيج نفى بن علي وأهدى السلطة إلى غيره...
لقد هاج الشعب أو لنقل ثار دون قيادة ودون استراتيجيا ودون منهج ، لذا نرى من حين إلى أخر شكلا احتجاجيا يدل على ارتباك الجماهير وتذبذبها وفشل النخب السياسية في أن تكون لها المصداقية الكافية والجرأة التاريخية لتبوأ القيادة والدفع بالهيج / الثورة لبناء دولة الحرية والكرامة.
[/size][/size]
[size=24]ثقافة الاستمرار... في عصر القطيعات...[/size][/size][/color]
بقلم عمر الهرهوري / مقالي بتاريخ 13 مارس 2013
ا[size=18]لمشهد السياسي في تونس بعد 14 جانفي 2011 مفتوح على كل الاحتمالات ، تداخلت الأطراف واختلطت الأوراق حتى صار التكهن بقادم الإحداث لا يقل زئبقية عن الرهان الرياضي ، زعامات آفلة وأخرى صاعدة أحزاب تتعدد كالخلايا السرطانية ، كثرت حتى صار الفرق بين أطروحاتها رفيعا جدا لا يكاد يرى بالعين المجردة ، انفلات أمني فردي وجماعي ، غياب شبه تام للدولة وتسيب فضيع في أجهزتها ومؤسساتها ... يسمى التونسيون هذا الأداء ثورة الكرامة والحرية ، من المفارقات أن كلمة ثورة يتلفظ بها الثائرون على بن علي وكذا من ركضوا في شوارع البلاد يوم 13 جانفي هاتفين "الله أحد بن علي ما كيفوا حد "،هذا المشهد مخيف جدا ، وإذا استمر فانه يؤذن بصيف جوع وبطالة.
هل الثورة هي كل الكوارث التي ذكرنا ؟
هل ثمن الثورة – بالضرورة - هدر الأنفس والأعراض والأموال ؟
هل هذه هي حقيقة كل الثورات في التاريخ ؟ أم في الأمر قاعدة و استثناء ؟
الثورة -من مقاربات لغوية وتاريخية وانسانية- جمع بصيغة المفرد ، تتلون بتراثها وثقافتها وبيئتها ومخزون أهلها ... عندما نتحدث عن تعريف الثورة تصدمني – شخصيا – المقارنة بين التعريف اللغوي العربي والفرنسي أو الانجليزي لها ، نقرأ في لسان العرب: ج - ص 53 – طبعة دار صادر سنة 2000 : ("مادة ث – و – ر" ثار الشيء ثورا وثؤورا وثورانا وتثور: هاج ... ويقال انتظر حتى تسكن هذه الثورة ، وهي الهيج وزاد في ص 54 وأثرت فلانا إذا هيجته لأمر ويقال ثورت كدورة الماء فثار ، وأثرت السبع والصيد إذا هجته وفي صفحة 55 والثور : الأحمق ، ويقال للرجل البليد الفهم : ما هو إلا ثور ).، الرافدان الرئيسيان للثقافة العربية ، القرآن والشعر لا يمارسان فعل الانزياح وسايرا المعهود من منطوق العرب ومنه قول الله تعالى عن بقرة بني إسرائيل Sad تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) – البقرة 71 وهو نفس الاستعمال في الآية 48 من سورة الروم : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) ، ومن الشعر :
يثير ويذري تربتها ويهيله إثارة نبات الهواجر مخمس
الثقافة العربية من عصورها القديمة لم تدرب وعينا ولا وعينا اللغوي وبالتالي النفسي إلا على احتمال وحيد أن الثورة هي الهيج ، مجرد الهيج وبهذا المعنى يكون الانفلات الحاصل في مناحي حياتنا ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة في سياقها العربي ، هيجانا مقصودا لذاته وفي ذاته ، كذا يكون التونسيون " الثائرون" ومن تشبه بهم من العرب أوفياء لمخزونهم الثقافي الذي لم يسند للثورة إلا بعض دلالة على استحياء في قلب التربة على الحب وفي ما عداه فالثورة هي الهياج ، لا يقولن معترض أن تعريف بن منظور موغل في القدم ، جوابنا على هذا الاعتراض المفترض أن العرب لم يشهدوا أية قطيعة ابستيمولوجية تقلب رأسا على عقب موروثهم أو علاقتهم به ، في الفقه ، في التفسير، في الأدب ، في الشعر، في السير ، في النقد ... جاء في القاموس الجديد الالفبائي ، نشر دار سراس طبعة 2003 : ( الثورة هي الهيجان) ص 200 في حين نقرأ في اللغة
الفرنسية تعريفا مختلفا تمام الاختلاف للثورة والفعل الثوري، جاء في معجم هاشيت – الموسوعة - :
Révolution : changement important dans l’ordre moral social etc… transformation économique profonde , intervenue dans les pays capitalistes à partir du 18 siècle … Bouleversement d’un régime politique et social ,le plus souvent consécutif à une action violente …)
وتزخر المعاجم الفرنسية بتعريفات مفصلو للثورة ومستوياتها ومجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية... ليس المجال مناسبا لاستعراضها كاملة غير أن المفارقة فارقة، وتدعو إلى كثير من الاعتبار عند إيقاع مقارنة بين التعريفين اللغويين للثورة كما فهمته اللغتان، وأفهمته للناطقين بهما عبر التاريخ ة، وبين السياقين الحضاريين الحاف بهما في كل حضارة.فالهيج - يقابله التغيير ، التغيير أعمق من الهيج رؤية، وأبعد منه نظرا، وأوعى منه حركة، وأرشد منه أداء، وأصدق منه فعلا، وأنبل منه قصدا، وأعمق منه أثرا، وأكثر منه تنظيما، وأوضح منه سعيا إلى المراد، وأسلم منه عقبا...
والإثارة - يقابلها التحول أو التحويل ، التحويل فعل مضمر ، هادف، قصدي، يعي نقطة بدئه ومنتهى حركته، بينما تبقى الإثارة مجرد تفجير للطاقات، وإعداد لشروط تفرقها إذا بلغ الشحن ذروته، دون توجيه دقيق لحركتها، او ضبط لمسارها، فيكون المثار اعتباطيا ، مزاجيا، اتفاقيا... أضر شيء بنفسه وبكل أمر يلابسه.
كما أن القلب، الانقلاب في البنى الاجتماعية والسياسية مما اختصت به اللغة الفرنسية ، ولم يكن من معهود العرب أن يعدوا بدائل سياسية واجتماعية وثقافية... لإرسائها مكسبا ثوريا قبل المسارعة إلى الانقضاض على القائم منها ، ونحن نسمع في تاريخنا عن "ثورة الحسين"، و"ثورة الخوارج بعد التحكيم"، و"ثورة حمدان بن قرمط"، و"ثورة الزنج"و"وثورة العيارين والشطار"... وهي كلها اسقاطات معاصرة على احداث التراث تلك لان لغتنا لا يتسع حقلها الدلالي لتسمية ذلك الفعل الحربي أو الاجتماعي ثورة، وفي سياق محايث تحفل أدبيات الفقه بوسم تلك الاحداث "خروجا "، و"حرابة" وبغيا... وكثيرا ما ربطتها بمعاني الفتنة ذات المثير الطائفي أو العرقي وبالإفساد في الأرض... وليس سلوك طبقة سياسية ذات رؤى محددة لكل شؤون الحياة ، او حركة قطاع من البناء الاجتماعي... وهذه الموجهات الفقهية موغلة في تأثيم هذا الفعل الحربي المسمى حديثا ثورة، ومسرفة في عده من علامات الخروج من جماعة المؤمنين...
ومن جهة أخرى، تحيل بين المرجعيتين اللغويتين على عدم توازن كمي ونوعي فاقت فيه اللغتان الفرنسية والانجليزية اللغة العربية في الفهم العام لفعل "ثار" ولاستحقاقاته التي يستدعيها سياقه، لأن الفرق في اللغة – كما ونوعا – هو ذاته المسافة الفاصلة بين الشعبين في الرصيد الحضاري والمكاسب الثقافية والتاريخية، وأن فقرنا اللغوي في الجانب الذي احدثنا فيه المقارنة، شاهد على فقرنا الثقافي أيضا، وكيف لا عوزنا الاخلاقي، فلم العجب – حينئذ من الثورة والثورية والثيران في بلاد العربان ؟[/size]
[size=18]إن اللغة المشافهة والمدونة تشكل ذوقنا، وتوجه تفكرينا، وتنحت رؤيتنا للأشياء، وتبسط سلطتنا الرمزية على أنفسنا وعلى ما حولنا، وتسطر منهجنا، وتقبح قبيحنا، وتجمل جميلنا، وتؤسس موقفنا من الوجود ومن الأخر ...[/size]
[size=18]وما دامت اللغة بهذه الخطورة البالغة، وبهذه الأهمية الإستراتيجية وأكثر ، فقد تم ترويضنا على مدى قرون معلومة وأخرى غير معلومة على اعتناق لغة البدوي، ساكن الصحراء، حول الثورة على أنها،" الهيج" و"الغليان" مع ما يرافق ذلك من انفلات لفظي وسلوكي كان للهيج في علاقة تضايف لا انفكاك في عراها .
ليس الأوان للتنظير لثورة ثقافية تعيد بناء نسيجنا العلائقي من الأرض حتى السماء، أو تعيد تأليف مدوناتنا اللغوية في ضوء الاستحقاق التاريخي الراهن ، ولكن التعريج على هذا المعطى يفهمنا إلى حد كبير ما نحن فيه، وما نحن ،عليه أو ما نحن صائرون إليه، ف"أزلام بن علي" والمتمردون عليه اتفقوا على الهتاف للثورة كل من زاويته المصلحية ، وكلهم من زاوية ابستيمولوجية ثوارا بما في كلمة الثورة من معنى عربي أصيل ، وفعلهم ثورة وثورية إذا استحضرنا دائما أننا نفكر باللغة العربية وفي نطاق سياجها الدلالي،[/size]
[size=18]فالكل هائجون، وكذا يثور العرب، وعندما يزايدون على أنفسهم وعلى تراثهم يسعون الى جب هذا المخزون الثقافي الجاثم على الصدور أو يصعدون أكثر في الطلب فيمنون النفس – في غفلة من التاريخ - ببلوغ ما نجح الأروبيون في تشييده عبر قرون من النضال الفكري والفلسفي والسياسي والاجتماعي بممارسة الثورة تغييرا وهيكلة وقلبا وانقلابا على البنى السياسية والاجتماعية والثقافية ...
وفي إطار ثقافة لا تعرف الثورة إلا هيجا أو هيجانا يتعذر التنبؤ بموعد الشرارة ، ويتعذر أيضا تحديد مدى تأثيرها، وحصر نتائجها، أو معرفة الجهة أو الجهات الفاعلة فيها ، وكل مهيج يصبح قادرا على إذكاء جذوة الثورة سواء كان خطيبا ببلاغته أو زعيما بشعاراته أو مثقفا بخطبه أو ثريا بماله أو عدوا بعيونه .[/size]
[size=18]وفي الهيج أو الهيجان يسهل التزعم وتسهل القيادة ويسهل الانقياد تحت تأثير الاندفاع الجماعي والصخب والهتاف ...ولا توجد في الهيج تراكمات نضالية وتعبئة عقائدية وتكوين فكري تنجزه النخب والقيادات ،[/size]
[size=18] فلا عجب بعد ذلك أن تغيب من معاجمنا القديمة والحديثة ألفاظ من قبيل الثورة الثقافية ، والثورة العلمية، والثورة الدينية... وما كتب منها في بعض المعاجم المعاصرة فعلى سبيل الترجمة أو التأريخ لما عند الغير ، أو على سبيل مسايرته في ما شاع من أطروحاته.
الفرق بين الهيج والثورة في سياق اجتماعي كما بلورها الفكر التنويري كبير، يفترض أن للثورة قيادة متعددة الأقطاب حتى لا تخمد بقتل القائد أو أسره وخطة – مزيج من استراتيجيا وتكتيك – ومنهج عمل منه السلمي ومنه الحربي الذي لا يوظف إلا للضرورة وبقدر دفع الضرر.
أين قادة الثورة ؟ من يجرأ على أن يدعي زعامتها أو يبرهن على انه محركها؟ الكل مجمع على أنها ليست حزبية ويشددون على عفوية الجماهير وصدقها ، إذا نحن بإزاء هيج أو هياج وليس ثورة . هيج نفى بن علي وأهدى السلطة إلى غيره...
لقد هاج الشعب أو لنقل ثار دون قيادة ودون استراتيجيا ودون منهج ، لذا نرى من حين إلى أخر شكلا احتجاجيا يدل على ارتباك الجماهير وتذبذبها وفشل النخب السياسية في أن تكون لها المصداقية الكافية والجرأة التاريخية لتبوأ القيادة والدفع بالهيج / الثورة لبناء دولة الحرية والكرامة.
[/size][/size]
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى